تفاصيــل الخبـر

حفلات تعذيب لا تتوقف ،،، وسجّان مُجرم لا يُحاسب

خلف الجدران السميكة وفي زوايا معتمة ، حيث لا تصل عدسات الكاميرات ، تُرتكب جرائم بحق الإنسان ويُسحق لا لذنبٍ اقترفه سوى أنه بات ضحية لنظام سادي لا يراقبه أحد ،، وسجّان لا يُحاسب، لأنه فوق القانون، أو لأن القانون خُلق ليحميه.

هناك، في الزنازين الباردة، لا يُعدّ الوقت بالساعات، بل بالصرخات ، وتُمارَس فيه الطقوس الوحشية كما لو كانت طقسًا يوميًّا، وتتحوّل الأجساد إلى ساحاتٍ مفتوحة للعذاب، بلا رحمة، بلا مساءلة، بلا خوف من عقاب.

"حفلات التعذيب" ليس مجرد تعبيراً مجازياً ، بل واقعًا يختصر حكاية المعذبين بين جنبات أقبية التحقيق وزنازين القهر ، حتى بات الألم والقهر هو اللغة الوحيدة التي يُتقنها الأسرى داخل الزنازين وسجون الاحتلال.

 وما بين الصمت والتواطؤ، تذوب الكرامة الإنسانية كما تذوب الروح تحت آلة القمع.

ورغم ما تَعد به المواثيق الدولية من كرامة وحقوق إنسانية مصونة، لا تزال بعض أماكن الاحتجاز حول العالم مسرحًا لانتهاكات صارخة، تتكرر بعيدًا عن الأعين والمحاسبة. هناك حيث تُنتزع الاعترافات تحت التعذيب، وتُقمع الأصوات بالخوف، ويتحول السجّان إلى قاضٍ وجلاد في آن، في غياب تام لأي رقابة مستقلة أو مساءلة قانونية.

في هذا التقرير، لا نسرد حكايات خيالية، بل نعرض شهادات ووقائع حيّة، تكرّس صورة مأساوية لحقيقة لا يمكن إنكارها: هناك من يُعذّب يوميًا، وهناك من يُفلت من العقاب كل مرة.

فمع الافراج عن الأسرى الفلسطينيين في اعقاب الاتفاق على انهاء الحرب في قطاع غزة ، تتزايد الشهادات الحية التي يرويها الأسرى المحررون، والتي تسلط الضوء على أساليب التعذيب الجسدي والنفسي الممنهجة التي تُمارس بحقهم ، ونقطة التحول السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023 ، ذلك اليوم الذي أظهر سادية الاحتلال وهمجيته تجاه الأسرى و حوّل السجون واقبيتها إلى ساحات إلى التعذيب والاغتصاب والموت الجماعي لما يزيد عن 10000 أسير فلسطيني .

 

"كنت في غوانتنامو... أنا عائد من الجحيم، وقادم من الموت"
"لم نكن في سجون، بل في مقابر حقيقية"


هكذا وصف عدد من الأسرى الفلسطينيين المحررين تجربتهم في سجون الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدين أن ما تعرضوا له يرقى إلى مستوى جرائم التعذيب الممنهج، ويتجاوز كل ما يمكن تصوره من انتهاك للكرامة والحقوق الإنسانية.

الصحفي الأسير المحرر عماد الإفرنجي كان أحد هؤلاء الذين عايشوا تلك التجربة القاسية؛ يقول " منذ اعتقالي في 18 مارس 2024 وحتى الإفراج عني في 13 أكتوبر 2025، تعرضت لتفتيش عارٍ وضرب مبرح وتقييد قوي، ولم يتوقف التعذيب عند نقلي إلى 'سيديه تيمان'. بل أجبرنا على خلع ملابسنا بالكامل والوقوف عراة أمام المجندين، وحرِمنا من النوم ودورة المياه، وتعرضنا للضرب إذا غلبنا النوم. في 'عوفر' استمر التعذيب الجسدي بالعصي الكهربائية والكلاب البوليسية، وكسرت عظام بعض المعتقلين، كما عانينا من التجويع والإهمال الطبي المتعمد، حتى اقتصر الطعام على الماء فقط، في ظل غياب شبه كامل للرعاية الصحية."

وأشار الافرنجي انّ الأمر لم يقتصر على التعذيب الجسدي فحسب، بل ترافقت هذه الانتهاكات مع سياسة تجويع ممنهجة، وإهمال طبي متعمد، حيث يُحرم المرضى من أبسط أشكال الرعاية الصحية، ولا يُقدَّم لهم سوى الماء، في ظل غياب شبه تام للعلاج والدعم الإنساني.

أسرى غزة وثمن السابع من اكتوبر : انتهاكات لا تُغتفر

منذ السابع من أكتوبر 2023، وصنف الاحتلال الفلسطينيين المعتقلين من غزة كمقاتلين غير شرعيين، ما منح سلطاته غطاءً قانونيًا زائفًا لممارسة التعذيب والإذلال.

التغيرات في ملامح الأسرى من هزال وشحوب وندوب واضحة تعكس حجم التجويع والإهمال الجسدي والنفسي، خاصة أسرى غزة، الذين كانوا الهدف الأبرز للانتقام داخل السجون.

وأكدت المؤسسات الطبية في غزة أن الأسرى وصلوا إلى المستشفيات بحالة منهكة، بينها إعاقات دائمة وبتر، وسط شهادات عن التجويع والعزل والإذلال الممنهج. مدير مجمع الشفاء، د. محمد أبو سلمية، وصف حالتهم الصحية بـ "المنهكة"، مشيرًا إلى إصابات مزمنة لم تُعالج طوال فترة الاحتجاز.

وكشف نادي الأسير عن تعذيب مستمر، يشمل التقييد والمعصوب العينين والضرب بالهراوات والكلاب البوليسية، وتعرض بعض الاسرى لبتر اطرافهم بدون تخدير، إضافة إلى التجويع والإذلال النفسي، والاعتداءات الجنسية، ومنع ممارسة الشعائر الدينية، مع تقييد الاستحمام واستخدام دورة المياه لثواني قليلة.

وقال الدكتور أحمد مهنا، الأسير المحرر، إن الاحتلال عامل الأطباء المعتقلين بعنف غير مسبوق مشيرًا إلى أنه شاهد بعض زملائه وهم يُكسرون ويُتركون دون علاج حتى الموت.

بينما شبّه الأسير المحرر إسلام أحمد ظروف "سيديه تيمان" بأنها أكثر فظاعة من سجن "أبو غريب". الأسير ناجي الجعفراوي وصف الأسر بالموت البطيء وكل يوم كان يعيشه داخل الأسر كأنه عامل كامل ، والأسير عبد الحميد عليان: "كنا ننام على سرير حديدي بلا فرشة، معصوبي العينين طوال اليوم، لا نرى الضوء ولا نسمع إلا الصراخ". وأخبر الأسرى أنهم أُجبروا على ضرب بعضهم بالأحذية، ومن رفض تعرض للصعق أو الشبح حتى فقدان الوعي.

كما تم توثيق تهديد الأسرى بقتل أبنائهم أو عائلاتهم، ونشر أخبار كاذبة عن استشهادهم، وانتشار الأمراض الجلدية بسبب الإهمال. وحكاية الأسير محمود أبو فول (28 عامًا) الذي اعتقل من مستشفى كمال عدوان شمال غزة وأمضى ثمانية اشهر في الأسر تجسد حجم المعاناة، إذ تعرض للضرب على الرأس حتى فقد بصره، وبتر ساقه، وقال: "كنت أتمنى أطلع من السجن ولو بعين واحدة أشوف فيها أمي… بس طلعِت وما عاد فيّ أشوفها."

وأضاف الأسرى أن الأيام الأخيرة قبل الإفراج، المسماة بـ "هدية الوداع"، كانت الأكثر قسوة، حيث تعرّضوا لضرب مبرح على الإصابات القديمة، تعليق لساعات طويلة، وإطفاء السجائر على أجسادهم وسط ضحكات الجنود.

 

شهادات مروعة من "شهداء السجون"

كشفت مصادر طبية ورسمية في غزة عن تفاصيل صادمة تتعلق بجثامين الشهداء الذين أعادتهم سلطات الاحتلال خلال الأسابيع الماضية. ووفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي، فقد تم تسلّم 120 جثمانًا في حالة مزرية، ويُشتبه بتعرض أصحابها للتعذيب والقتل أثناء الاحتجاز.

فعدد من الجثث وصلت مكبّلة الأيدي والأرجل، معصوبة الأعين، وتحمل آثار تعذيب وحروق وآثار دهس بجنازير دبابات ، ووفقًا لـوزارة الصحة بغزة، تم التعرف على 6 جثامين فقط من أصل 120، بسبب تشوه الأجساد وفقدان أجزاء منها ، كما رصدت تقارير طبية أولية مؤشرات مقلقة لاحتمالية سرقة أعضاء بشرية من بعض الجثامين، ما يشكل جريمة فظيعة تتجاوز حدود الإنسانية، وتعكس سلوكًا إجراميًا منظمًا بحق الجسد الفلسطيني، حيًا وميتًا.

وأكد على ذلك الدكتور محمد زقوت ، مدير عام المستشفيات في غزة حيق قال : " بعض الجثامين تحمل آثار جنازير دبابات، وأخرى آثار تعذيب واضحة، مما يعكس بشاعة ما تعرض له الشهداء" ، ومن جهته ، قال الدكتور منير البرش ، مدير عام الصحة بغزة : أنً الأسرى الذين أفرج عن جثامينهم أُعيدوا مقيدين، معصوبي الأعين، وعليهم آثار تعذيب مرعب، وبين أن الجثامين "لم تكن مدفونة تحت التراب، بل معتقلة في ثلاجات الاحتلال لشهور طويلة"، مؤكدا أن ما جرى يمثل "جريمة حرب مكتملة الأركان" تستوجب تحقيقا دوليا عاجلا ومحاسبة الجناة

الصمت لا يبرّر الجريمة، والتوثيق لا يكفي وحده

رغم قسوة ما يتعرض له المعتقلون الفلسطينيون داخل سجون الاحتلال، ورغم الشهادات التي تكشف فصولًا من الإهانة والتعذيب اليومي، إلا أن المجتمع الدولي لا يزال يتعامل مع هذه الانتهاكات كخبر عابر، لا كجريمة مستمرة تستدعي تحركًا عاجلًا.

وقد أثبتت التجربة أن التقارير الحقوقية، مهما بلغت دقتها، تظل عاجزة وحدها عن إحداث اختراق حقيقي ما لم تُقابل بإرادة سياسية ومحاسبة دولية. كما أن اهتمام الصحف العالمية، إن بقي محصورًا في مناسبات موسمية أو متأثرًا بالمزاج السياسي، فلن يُسهم إلا في تغطية محدودة لا تلامس جوهر المعاناة.

إن ما يحدث خلف جدران السجون الإسرائيلية، من تعذيب ممنهج وإخفاء قسري وتجويع وإذلال، لا يمكن أن يُواجه إلا برفع الصوت عاليًا، وتكثيف الضغط من كل الجهات الحقوقية والإعلامية، عربيًا ودوليًا، من أجل كسر جدار الصمت وكشف الحقيقة.

فالتاريخ لا يرحم، والمجرمون لا يتوقفون ما لم يُكشَف قبحهم للعالم.

أخبار مشابهة