تفاصيــل الخبـر

المحرر محمود عيسى

محمود عيسى: من العزل إلى الحرية: قصة عمر كامل في مواجهة الاحتلال

 

يولد المقاومون في الأزمنة الصعبة كأنهم رسائل سرية من التاريخ، تُكتب على جدار الوطن بالحبر الذي لا يجفّ. لا يختارون الطريق السهل، بل يعرفون الطريق الذي لا عودة منه؛ طريقٌ يمرّ من بين البنادق والزنازين، ويُفضي إلى مجدٍ أو شهادةٍ أو عمرٍ يُستنزف في مواجهة الحديد والنسيان.

من هؤلاء الذين حملوا على أكتافهم عبء القضية ودفعوا أعمارهم مهرًا لحريتها، يخرج القائد المقدسي محمود عيسى، بعد أكثر من 32 عامًا خلف قضبان الاحتلال، ليجد نفسه حرًا في أرضٍ ليست أرضه، لكنه ما زال يحمل القدس في قلبه، وغزة في نبضه، والوطن كله في صمته الطويل.

يقول عيسى وهو يودع رفاقه في الحافلة التي أقلّته من الأسر إلى الحرية:

“لغزّة علينا دينٌ مستحقّ، وستبقى نبض شراييننا وخفق قلوبنا.”

هكذا تكلّم الرجل الذي قضى نصف عمره في السجون، كأنه يختصر كل ما تبقّى من وجع الفلسطينيين في جملة واحدة من العرفان والوفاء.

من عناتا إلى الوحدة الخاصة “101”.. البدايات التي كتبت المجد بالدم

ولد محمود موسى عيسى في بلدة عناتا شمال شرق القدس المحتلة في 21 مايو/أيار 1968، في بيت متواضع يشبه بيوت الريف المقدسي في بساطته وصلابته. في شوارعها الضيقة وحقولها الممتدة نحو الجدار، تفتّحت ملامح وعيه الأول، وسمع مبكرًا أصوات المداهمات ووقع أقدام الجنود الإسرائيليين على تراب البلدة.

درس في مدارس القدس، ثم التحق بكلية الشريعة وأصول الدين في جامعة القدس – أبو ديس، لكنه لم يكمل تعليمه بسبب مطاردات الاحتلال له بعد انخراطه في كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس.

انضم إلى الكتلة الإسلامية في جامعة القدس أبو ديس، ثم التحق في صفوف حركة حماس فور تأسيسها عام 1987، وبعدها التحق بجناحها العسكري كتائب عز الدين القسام.

عام 1992، كان محمود ورفاقه الثلاثة موسى عكاري، وماجد أبو قطيش، ومحمود عطون، يؤسسون أول خلية عسكرية في القدس عُرفت باسم الوحدة الخاصة “101”، حملت على عاتقها مهمة واحدة: تحرير الأسرى عبر أسر الجنود الإسرائيليين.

في الثالث عشر من ديسمبر/كانون الأول 1992، نفّذت الوحدة عملية نوعية أسفرت عن اختطاف الضابط الإسرائيلي نسيم توليدانو قرب مدينة اللد، وطالبت بالإفراج عن الشيخ أحمد ياسين مقابل إطلاق سراحه. رفضت إسرائيل التفاوض، فقتلت الضابط بعد انقضاء المهلة، وشنّت حملة اعتقالات واسعة ضد قادة حماس والجهاد الإسلامي، وأبعدت المئات إلى مرج الزهور جنوب لبنان.

بعد ستة أشهر من المطاردة، اعتُقل محمود ورفاقه في يونيو/حزيران 1993، وكان عمره آنذاك خمسة وعشرين عامًا. اجتمع “الكنيست” حينها ليعلن أنه اعتقل “أخطر خلية في القدس”، وحكمت المحاكم الإسرائيلية على محمود عيسى بالسجن ثلاث مؤبدات و46 عامًا، بتهم تنفيذ عمليات عدة، بينها قتل جنود وشرطيين إسرائيليين ومحاولة اغتيال ضابط في الجيش.

ثلاثة عقود من العتمة.. عميد العزل وأسطورة الصمود

دخل محمود عيسى السجن شابًا في منتصف العشرينات، وخرج منه بعد أن جاوز السابعة والخمسين، كأنما عبر ثلاثة أجيال داخل الزنازين.

منذ لحظة اعتقاله، عُرف بثباته وصلابته في التحقيق، إذ خضع لشهرين متواصلين من التعذيب في مركز “المسكوبية” ثم “الرملة”، حُرم فيهما من النوم، وتعرّض للضرب والخنق، لكنه رفض الاعتراف بالتهم الموجهة إليه.

أمضى أكثر من 13 عامًا في العزل الانفرادي، ليُلقَّب بـ**“عميد الأسرى المعزولين”**. كان الاحتلال ينقله من سجن إلى آخر كل ستة أشهر لكسر تواصله مع بقية الأسرى. في زنازين ضيقة بلا شمس ولا دفء ولا وجوه بشرية، تعلّم كيف يصنع حياة بديلة من الكتب والكتابة والذكر.

في إحدى محاولات التحرر، عام 1996، حفر عيسى مع مجموعة من الأسرى نفقًا بطول عشرة أمتار تحت سجن عسقلان، لكن سلطات الاحتلال اكتشفته قبل اكتماله، فعوقب بالعزل مجددًا.

ولم تتوقف المعاناة عند حدود الحديد؛ فقد فقد والده بعد عام على اعتقاله، ثم والدته عام 2021، بعد أن زارته خمس مرات فقط طوال ثلاثة عقود، من وراء الزجاج.

يقول أحد رفاقه في الأسر:

“كان محمود مدرسة في الصبر والعقل، لا ينهار مهما اشتدت العزلة، كان يوزّع الأمل كأنه حصص تموين يومية للأسى.”

السجن ليس النهاية.. الأدب والفكر مقاومة

في داخل الزنازين، تحوّل عيسى إلى كاتب ومفكّر مقاوم، ألَّف كتبًا عدة ضمنها أفكاره وأطروحاته في قضايا المقاومة والسياسة، إلى جانب إنتاجات أدبية:

  • "المقاومة بين النظرية والتطبيق"، 2000.
  • رواية "حكاية صابر"، 2012.
  • "عِبر لمن يعتبر.. أقاصيص من التاريخ"، 2012.
  • "وفاء وغدر"، 2013.
  • "تأملات قرآنية"، 2014.
  • "نظرية المؤامرة في القرآن الكريم"، 2015.
  • "السياسة بين الواقعية والشرعية.. دراسة نقدية لكتاب الأمير مكيافيلي"، 2016.
  • "رسالة الوسطية في الجهاد والفكر والتربية"، 2018.

خاض عشرات الإضرابات عن الطعام، أبرزها إضراب 2012 الذي استمر 28 يومًا، وانتهى بإنهاء سياسة العزل الانفرادي عن مجموعة من الأسرى، وكان اسمه في مقدمتهم.

كان الأسر بالنسبة إليه شكلًا آخر من المقاومة، إذ قال ذات مرة في رسالة مسرّبة:

“يظنّون أن العزل يُميت فينا الحلم، لكنه في الحقيقة يُنبت فينا فكرة الحرية كل يوم من جديد.”

حرٌّ مبعد.. يخرج من السجن ويدخل ذاكرة الوطن

بعد أكثر من ثلاثة عقود من الاعتقال، نال محمود عيسى حريته في إطار صفقة طوفان الأحرار التي نفذتها المقاومة الفلسطينية بقيادة كتائب القسام في غزة.

كانت تلك اللحظة التي فشلت فيها كل وعود الشاباك الذي قال له ذات يوم: “لن ترى الحرية ما حييت.”

لكنّه رآها، وإن جاءت منقوصة؛ إذ قررت سلطات الاحتلال إبعاده إلى مصر ومنعه من العودة إلى القدس. حين وصل إلى مصر، كان في استقباله رفاق دربه القدامى: ماجد أبو قطيش، موسى عكاري، ومحمود عطون. التقط الأربعة صورة تذكارية، صامتة في شكلها، ناطقة في معناها؛ صورة جمعت من جديد الوحدة 101 التي حلمت قبل أكثر من ثلاثين عامًا بتحرير الأسرى، وها هي تعود لتشهد تحقيق حلمها على يد المقاومة في غزة.

وقف محمود على كرسيه المتحرك، مريضًا لكنه شامخ، ووجّه تحيّته لغزة قائلاً:

“لله درّكِ يا غزة، تبنين لأمتنا ببيوتك المهدّمة وأشلاء أطفالك وشيوخك صرح العزة.”

ذلك الامتنان لم يأتِ من فراغ؛ فالمقاومة التي أسّس هو نواتها في القدس هي التي ردّت له اليوم بعض دينه، حين جعلت من تحريره رمزًا لوحدة الميدان بين غزة والقدس.

غزة التي ردّت الجميل

في زمن تُقصف فيه البيوت فوق ساكنيها وتُهدم المدن على ذاكرة سكانها، تبدو حكاية محمود عيسى أكثر من مجرد قصة تحرر فردي؛ إنها عودة رمزية للمقاومين الأوائل إلى ساحة الفعل، واعتراف من غزة بأن من بدأوا الطريق في القدس لم يُنسَوا.

في قلب هذا المشهد، تقف غزة — المدينة التي قدّمت أبناءها على مذبح الحرية — لتقول بصفقة واحدة إن المقاومة لا تترك أسراها، وإن الذين عرفوا طريقهم في التسعينيات لا يزالون يمشون فيها اليوم، وإن اختلفت الجغرافيا وتغيّر الزمان.

خرج محمود عيسى من ظلمة الزنازين إلى ضوء آخر، لا يُقاس بحرية الجسد، بل بكرامة الموقف. لقد انتصر، لا لأنه نجا، بل لأنه ظلّ مؤمنًا أن الحرية لا تُستعطى، بل تُنتزع.

ما بعد الحرية

حين ودّع رفاقه خلف القضبان، قال لهم إن الحرية لا تكتمل إلا بخروج الجميع. لم يغادره الإيمان بالقدس ولا الحلم الذي بدأه شابًا في الوحدة 101، وهو الآن يواصل طريقه ككاتب ومفكر يشهد على جيل من الرجال الذين صنعوا المجد في العتمة وكتبوه بدمائهم على جدار التاريخ. إنه محمود عيسى، ابن القدس، عميد الأسرى المعزولين، المحرر الذي حمل معه إلى منفاه وصية الوطن: “من السجن خرجت أكثر اقتناعًا بأن طريقنا صعب، لكنه الطريق الوحيد إلى الحرية.”

أخبار مشابهة