تفاصيــل الخبـر

احتجاز جثامين الشهداء : سياسة استعمارية ممنهجة وجريمة حرب مستمرة

 

في جغرافيا مثقلة بالفقد، لا تتوقف معاناة الفلسطيني عند حدود الموت، إذ تواصل سلطات الاحتلال الإسرائيلي ممارساتها الاستعمارية حتى بعد استشهاد الإنسان الفلسطيني، بحرمانه من حقه الإنساني والأخلاقي في الدفن اللائق بين أهله وأرضه.

فما إن يسقط الشهيد حتى تبدأ رحلة جديدة من الانتهاك، حيث تحتجز جثامينهم في ثلاجات عسكرية أو توارى في مقابر سرية تعرف بـ "مقابر الأرقام"، تمحى فيها الأسماء وتستبدل بأرقام معدنية. بذلك، يتحول الجسد الفلسطيني إلى ملفٍ أمني يخضع لمساومات سياسية، في ممارسة تجسد أبشع أشكال السيطرة الاستعمارية التي تمتد من الأرض إلى الجسد، ومن الحياة إلى الموت.

إن سياسة احتجاز الجثامين تمثل انتهاكا صارخا لكرامة الإنسان وللقانون الدولي الإنساني، وتكرس مفهوم "التحكم في الموت" كأداة للهيمنة والعقاب الجماعي. فهي لا تسلب العائلات حق الوداع فحسب، وإنما تفرض على المجتمع الفلسطيني حالة من الحداد المستمر والغياب القسري الذي لا ينتهي.

سياسة استعمارية ممنهجة: من الممارسة العسكرية إلى التشريع القانوني

على مدار أكثر من خمسة عقود، واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي انتهاك إنسانية الفلسطينيين بعد استشهادهم. فمنذ عام 1967 بدأت سياسة احتجاز الجثامين كممارسة عسكرية غير رسمية، سرعان ما تحولت إلى نظامٍ قانوني متكامل عبر أوامر عسكرية وقرارات قضائية وتشريعات جديدة.

في عام 2018، عدل الكنيست الإسرائيلي قانون "مكافحة الإرهاب" ليمنح الشرطة صلاحية رسمية لاحتجاز جثامين الشهداء، وفي عام 2019 صادقت المحكمة العليا الإسرائيلية على القرار، معتبرةً أن الاحتجاز "مشروعٌ لأغراض المساومة السياسية". وهكذا انتقلت هذه الجريمة من هامش الممارسة العسكرية إلى قلب المنظومة القانونية الإسرائيلية، في انتهاك صارخ لكل المعايير الإنسانية والدولية التي تحكم النزاعات المسلحة.

بهذا أصبح الجسد الفلسطيني أسيرا حتى بعد الموت، تدار قضيته بأدوات قانونية زائفة، تشرعن الجريمة وتمنحها غطاء قضائيا وسياسيا لتبرير ما لا يبرر.

مقابر الأرقام والثلاجات: ذاكرة مسروقة وجسد مصادَر

تشكل مقابر الأرقام واحدة من أكثر الصفحات ظلمة في سجل الاحتلال، وهي مواقع عسكرية مغلقة في مناطق معزولة داخل الأراضي المحتلة، تدفن فيها جثامين الشهداء في قبور ضيقة، بلا أسماء ولا شواهد حقيقية، وتستبدل الأسماء بأرقام معدنية محفورة. تعامل الجثامين كـملفات أمنية، وتدفن دون توثيق أو إجراءات لائقة، ما يجعل استعادتها لاحقا مهمة شبه مستحيلة.

أما الثلاجات العسكرية فهي سجون ما بعد الموت، حيث تحتجز الجثامين لشهور أو سنوات طويلة في درجات حرارة متدنية، ثم تعاد لعائلاتها في حالات مأساوية مشوهة، متجمدة، أو بلا معالم واضحة لتضاعف من مأساة الأمهات اللواتي لم تتح لهن فرصة الوداع.

تصف إحدى الأمهات حياة ذوي الشهداء بأنها معلقة بين الصدمة والانتظار، إذ لم يمنحوا حق الوداع ولا راحة المعرفة، بينما تتحول الثلاجة في المخيلة الجمعية إلى رمزٍ للرعب والمصادرة والوجع الذي لا يبرد.

شهادات طبية تكشف الفظائع

في مشهد مروع، كشفت وزارة الصحة في غزة عن تفاصيل الجثامين التي أعادها الاحتلال خلال الأشهر الماضية، بعد احتجازها لشهور في "سديه تيمان". التقارير الطبية الموثقة أظهرت أن العديد من الجثامين:

  • كانت مقيدة الأيدي والأرجل بمرابط بلاستيكية، وأعينها معصوبة.
  • تحمل آثار إطلاق نار مباشر من مسافة قريبة جدا، ما يؤكد عمليات إعدامٍ ميداني.
  • عثر على آثار حبال على الأعناق، ما يشير إلى شنقٍ أو خنقٍ متعمد.
  • كما وجدت جثامين سُحقت تحت جنازير الدبابات الإسرائيلية، وأخرى تحمل حروقا وكسورا وجروحا غائرة، مما يثبت أنها تعرضت للتعذيب قبل القتل.

وقال المدير العام لوزارة الصحة بغزة، د. منير البرش: "لقد أعيدت إلينا جثامين الأسرى من غزة وهم مقيّدون، معصوبو الأعين، وعليهم آثار تعذيب وحروق بشعة تكشف حجم الإجرام الذي ارتُكب في الخفاء. هؤلاء لم يموتوا موتا طبيعيا، بل أُعدموا بعد أن قيدوا. إنها جريمة حرب مكتملة الأركان تستدعي تحقيقا دوليا عاجلا ومحاسبة الجناة".

حيث أدانت مؤسسة العهد الدولية هذه السياسة بأشد العبارات، مؤكدة أن احتجاز الجثامين جريمة مستمرة ضد الإنسانية تمارسها إسرائيل في انتهاكٍ صارخ لكل المواثيق الدولية.

وقالت المؤسسة "إن ما تمارسه سلطات الاحتلال بحق الشهداء الفلسطينيين يمثل تجاوزا لكل الحدود الأخلاقية والقانونية، فاحتجاز الجثامين هو امتداد لجريمة الاحتلال ضد الحياة ذاتها"

وأكدت إن تحويل الأجساد إلى أوراق مساومة سياسية وأمنية يعكس منطق الاستعمار الاستيطاني القائم على السيطرة على الفلسطيني في كل مراحل وجوده؛ حيا وميتا.

ودعت مؤسسة العهد الدولية إلى:

  • تحرك عاجل من مجلس حقوق الإنسان والمقررين الخاصين بالأمم المتحدة لفتح تحقيق مستقل في هذه الجرائم.
  • إدراج ملف الجثامين المحتجزة ضمن القضايا المقدمة إلى المحكمة الجنائية الدولية.
  • الضغط الدبلوماسي والحقوقي لإجبار إسرائيل على الإفراج الفوري عن جميع الجثامين المحتجزة، وتسليمها لعائلاتها بما يضمن كرامة الموتى وحقوق ذويهم.

وأوضحت إن صمت المجتمع الدولي عن هذه الجريمة المستمرة يمثل تواطؤا بالصمت. فكل جثمان محتجز هو شاهد على انتهاك لم يُحاسَب بعد، وكل رقم في مقابر الأرقام هو إنسان حرم من وداعه الأخير.

انتهاك صارخ للقانون الدولي والإنساني

تشكل سياسة احتجاز الجثامين خرقا فاضحا لجملة من الاتفاقيات الدولية:

  • اتفاقية جنيف الرابعة (1949) والمادة (17) من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، اللتان تلزمان الأطراف باحترام جثامين القتلى وإعادتها إلى ذويهم دون تأخير.
  • العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، الذي يضمن الحق في الكرامة والحرية الدينية والحياة الأسرية، وهو ما ينتهكه الاحتلال بحرمان العائلات من دفن أحبائها وفق معتقداتهم.
  • الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري (2006)، التي تعتبر إخفاء الجثامين شكلاً من أشكال الإخفاء القسري وجريمةً دولية لا تسقط بالتقادم.
  • القانون الدولي العرفي الذي يفرض احترام الموتى وإعادتهم بعد النزاعات.

إن تحويل الأجساد إلى أوراق مساومة سياسية وأمنية يعد عقابا جماعيا محظورا بموجب القانون الدولي الإنساني، ويرقى إلى مستوى جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية وفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

 

 

 

 

أخبار مشابهة