حفلات تعذيب لا تتوقف ،،، وسجّان مُجر...
"حفلات التعذيب" ليس مجرد تعبيراً مجازياً ، بل واقعًا يختصر حكاية المعذبين بين جنبات أقبية...
كشفت شهادات أسرى محررين من قطاع غزة ضمن المرحلة الثالثة من صفقة "طوفان الأحرار" عن مشاهد صادمة تتعلق بالأوضاع الصحية والنفسية التي عاشوها داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي.
فمن بين نحو 1967 أسيرًا أُفرج عنهم، بينهم 1700 من أبناء قطاع غزة، خرج كثيرون بأجسادٍ منهكة، وبعضهم مبتورو الأطراف أو على كراسٍ متحركة، بينما بدت على وجوههم وأجسادهم آثار واضحة للتعذيب والتجويع والإهمال الطبي.
وتشير الشهادات إلى أن السجّانين مارسوا انتقامًا وحشيًا بحق الأسرى في الأيام الأخيرة قبيل الإفراج، واصفين ذلك بـ "الهدية الأخيرة"، في مشهد يعكس التوحش المتصاعد داخل منظومة السجون الإسرائيلية بعد حرب الإبادة على غزة.
شهادات من قلب العذاب
في سياق عملها التوثيقي والحقوقي، رصدت مؤسسة العهد الدولية عددا من الشهادات الحية التي استمعت إليها مباشرة من الأسرى المحررين والصحفيين الذين عايشوا تجربة الاعتقال، وخرجوا حاملين ما لا تحمله عدسات الكاميرات ولا تنقله نشرات الأخبار.
من خلال المقابلات المطولة والاستماع الدقيق لرواياتهم، أعادت المؤسسة رسم ملامح المعاناة التي تتجدد كل يوم خلف جدران السجون، لتضع بين أيدي العالم شهادات ناطقة بالوجع والكرامة في آن واحد.
فها هو الصحفي أبو سيدو يروي تفاصيل ما عاشه بعد اعتقاله، شهادته مرآة عاكسة لجيل كامل من الصحفيين الفلسطينيين الذين حول الاحتلال أقلامهم إلى تهمة، وعدساتهم إلى "خطرٍ أمني". تحدث بصوت متعب لمؤسسة العهد الدولية عن واقع الاعتقال والسجون والمعتقلات الإسرائيلية ومرحلة التحقيق، عن الخوف الذي لم يطفئ الإصرار، وعن زملائه الذين ما زالوا هناك يقاومون بالصبر والكلمة.
يقول الصحفي شادي أبو سيدو، الذي اعتُقل من داخل مجمع الشفاء الطبي أثناء تغطيته للأخبار، إنه أمضى عشرين شهرًا في الأسر ذاق خلالها صنوف التعذيب والإهانة: "جردونا من ملابسنا وضربونا حتى كسرت عظامي، ثم نقلوني إلى الشاحنات ومنها إلى معتقل سديه تيمان. هناك ضربوني في كل مكان، قضيت سنة كاملة وأنا أجثو على ركبتيّ، مقيد اليدين، مغمض العينين. كنا لا نأكل إلا القليل جدًا لا يكفي لطفل، ونسمح بدخول الحمام مرة واحدة ليومين لدقيقتين فقط، ومن يتأخر يُعاقَب. من يحرك شفتيه يُشبح مئة يوم على الجدار مكبلا ومغمى العينين".
ويضيف: "في معتقل عوفر كان التعذيب أشد قسوة. أثناء التحقيق قالوا لي: (نحن قتلنا كل الصحفيين ولم نتمكن من قتل عدستك، لذلك سنبيد عدسة عينيك)، ثم ضربوني حتى أصبت بنزيف في عيني وفقدت سمعي جزئيا بعد ما يسمى لديهم 'الديسكو'. كانوا يعاملوننا كالبهائم، وكل جسدي اليوم مليء بالجروح والكسور والندوب".
ويروي المحرر محمود أبو فول (28 عاما) من شمال قطاع غزة أنه اعتقل من داخل مستشفى كمال عدوان في ديسمبر 2024، وقال: "فقدت بصري من شدة التعذيب، وبُتّ لا أرى شيئًا. ثمانية أشهر لم أعرف فيها إلا الضرب والإهانة. كنت عاجزًا، بقدمي المبتورة، ولم يرحموا عجزي. كانوا يضربونني حتى الإغماء، وكنت أسمع فقط أصواتهم وصراخ الأسرى من حولي. لا طعام، لا دواء، ولا رحمة".
أما الأسير المحرر ثابت الفقعاوي من مدينة خانيونس تجربة اعتقاله بين يناير ويونيو 2024 بأنها "جحيم لا يحتمل": "ستة أشهر من القيد والعتمة، كنت مغمض العينين طوال اليوم، لا نرى الضوء، لا نعرف الوقت. من يتحرك يعاقب بالضرب أو الحرمان من الطعام. كنا ننام على الأرض بلا فرشة، والطعام رديء لا يصلح للبشر. التجويع سياسة متعمدة، والماء ملوث، والهواء مليء بالرعب ".
ويروي الأسير المحرر أحمد التلباني بصوت مرتجف: "عام كامل من التعذيب المتواصل أنساني وجوه أطفالي. التجويع، الإذلال، العزل، التهديد بقتل أولادي. كانوا يطلقون الكلاب فوق أجسادنا طوال الليل. كنا نعيش الموت البطيء كل لحظة، والصراخ المستمر".
ويضيف الأسير المبعد إلى غزة منصور عاطف ريان (من نابلس) والذي أمضى عامين في الاعتقال بعد أن قضى سابقا 17 عاما في سجون الاحتلال، ويقول: "ما عاشه الأسرى في العامين الأخيرين يفوق الوصف، فالتعذيب لم يتوقف لحظة. كنا نُضرب بلا سبب، يُطلقون علينا الكلاب، يُصعقوننا بالكهرباء، يُمنعوننا من الصلاة ورفع الأذان. البطانيات تُعطى لأربع ساعات فقط، وبقية اليوم ننام على الأرض. كانوا يجبرون الأسرى على ضرب بعضهم بالأحذية لإذلالهم، ومن يرفض يتعرض لوحدة القمع".
ويكمل: "بعد الإفراج، عرفت أن ابني عبادة استُشهد قبل أسبوع فقط. أما زميلي أحمد إدريس فقد استُشهد داخل السجن نتيجة الإهمال الطبي. إنها مأساة مضاعفة أسر واستشهاد وحرمان حتى من الوداع" .
ويؤكد الأسير المحرر الدكتور أحمد مهنا (مدير مستشفيات العودة) قائلا : "الاعتقال كان جحيما حقيقيا، تعرضنا فيه كأطباء لأسوأ أنواع التعذيب خلال التحقيق. الاحتلال كان يعاملنا بعنف متعمد، ويهمل المرضى والمصابين حتى الموت. كثيرون استُشهدوا داخل السجون نتيجة الإهمال الطبي المقصود".
ويبين الأسير المحرر إسلام أحمد من قطاع غزة قائلا أن "طريقة اعتقالنا كانت مذلة، لم نُعامل كبشر، بل كأشياء. ما واجهناه في معتقل سديه تيمان يفوق ما سمعناه عن أبو غريب. تعرضنا لمهانة مطلقة، حتى أن بعض الأسرى حاولوا الانتحار من شدة التعذيب. رأيت زملائي تُكسر أيديهم عمدًا، وآخرين يُقال لهم إن عائلاتهم استشهدت. بعضهم تعرّض للاغتصاب الوحشي، جُردوا من ملابسهم وأُدخلت عصي في أجسادهم ، لقد سحقت إنسانيتنا بالكامل".
وهاهو الأسير المقدسي أيمن الشرباتي المحكوم بالسجن المؤبد مدى الحياة يقول : "رأيت بأم عيني كيف تعرض الأسير مروان البرغوثي لاعتداء وحشي من ثمانية عناصر شرطة، حتى أغمي عليه. الاحتلال أراد إذلاله وإذلالنا جميعا. في العامين الأخيرين بلغ القمع ذروته، أرادوا نزع إنسانيتنا تمامًا، لكننا بقينا متمسكين بالكرامة رغم الألم".
الأسير المحرر بهاء شبراوي من مخيم طولكرم المحكوم ٣٥ عاما والمحرر في صفقة طوفان الأحرار روى تفاصيل عامين من الصمود في وجه سياسة التجويع والعقوبات القاسية. يحكي أنه لم يرتدِ حذاءً منذ السابع من أكتوبر، وأن الفورة المتنفس الوحيد للأسرى لم تكن تتجاوز دقائق معدودة، تتبع بعقوبات ثقيلة لأبسط الأسباب. كانت الأيام تمر ثقيلة فيما كانت إدارة السجن تحاول إذلالهم بكل تفصيل صغير من تفاصيل الحياة.
وعند الحديث عن الأسرى الذين ما زالوا يقبعون في السجون، نقل المحررون وجعهم الحيّ كأنهم ما زالوا بينهم، فها هو الأسير المؤبد أحمد زيدات مثالًا ناطقا على هذا الوجع الممتد ، لا تزال صورته حاضرة في الذاكرة الجمعية للأسرى، كرمز للصمود والثبات في وجه العزلة القاسية والعقوبات الجماعية التي لا تفرّق بين أسيرٍ وأسير. روى المحررون كيف يتناوب أحمد ورفاقه على حمل الأمل، وكيف يتقاسمون فتات الأيام بين صبرٍ ودعاء، وبين حلم بأن تفتح أبواب الزنازين ذات فجرٍ قريب. شهادته التي وصلت عبر رفاقه وجع يومي متواصل، يعبر عن آلاف الأسرى القدامى الذين يذوبون ببطء في غياهب السجون، بينما العالم لا يسمع إلا الصدى.
حيث نقل أسيران محرران من سجن نفحة رسالة إلى زوجة الأسير أحمد محمد زيدات من بلدة بني نعيم – الخليل، مؤكدين إصابته بمرض "السكابيوس" (الجرب) داخل السجن، حيث تم عزله 21 يوما دون علاج كافٍ، مما أدى لتدهور وضعه الصحي. زوجته تناشد المؤسسات الحقوقية لمعرفة مصيره في ظل استمرار انقطاع الزيارات، مؤكدة أن زوجها متزوج ولديه طفلة (4 أعوام)، وأن منزله تعرّض للهدم، وهو محكوم بالمؤبد و60 عامًا إضافية.
تتقاطع هذه الشهادات جميعا في نقطة واحدة: أن ما يجري في سجون الاحتلال محاولة ممنهجة لطمس الوعي وكسر الروح الفلسطينية. ومع ذلك، يخرج الصوت من قلب الجدار أقوى من كل أدوات القمع، صوت يصرخ بالحق، ويؤكد أن الحرية مهما تأخرت آتية.
انتهاكات ممنهجة وجرائم خارج القانون الدولي
أكدت مؤسسة العهد الدولية أن ما ورد في شهادات الأسرى المحررين من قطاع غزة يشكل جرائم حرب مكتملة الأركان بموجب اتفاقيات جنيف الرابعة لعام 1949، وانتهاكًا جسيمًا للمادة (3) المشتركة التي تحظر التعذيب، والمعاملة القاسية ،والمهينة للأسرى والمعتقلين.
وأضافت المؤسسة في بيانها أن استمرار هذه الانتهاكات داخل السجون الإسرائيلية، وتعمّد التعذيب الجسدي والنفسي، وحرمان الأسرى من العلاج والغذاء والماء، يمثل سياسة ممنهجة للإبادة البطيئة تخالف كل المواثيق الدولية والإنسانية.
وطالبت المؤسسة بـ:
ما يرويه الأسرى المحررون صرخات حية من قلب الجحيم، تحمل وجع آلاف المعتقلين الذين ما زالوا خلف القضبان. خرج هؤلاء بأجسادٍ مهشمة وأرواح منهكة، لكنهم حملوا أيضا شهادة دامغة على التوحش الإسرائيلي الذي تجاوز كل الحدود.
إنها دعوة مفتوحة للضمير العالمي كي لا يصمت أمام هذا الجرح الفلسطيني المفتوح، فكل أسيرٍ يخرج من الزنزانة اليوم إنما يخرج من قبر مؤقت صنعته يد الاحتلال، شاهداً على زمن تُختبر فيه إنسانية العالم بأسره.
الأسيرة سماح الحجاوي: ثقل الاعتقال الثالث
27 أكتوبر 2025
حياة الجحيم في معتقلات الموت الإسرائيلية
27 أكتوبر 2025
الأسيرة ولاء حوتري تتقوّى بسيرة أخيها الشهيد
25 أكتوبر 2025
حفلات تعذيب لا تتوقف ،،، وسجّان مُجرم لا يُحاسب
21 أكتوبر 2025
احتجاز جثامين الشهداء : سياسة استعمارية ممنهجة وجر...
18 أكتوبر 2025
محمود عيسى: من العزل إلى الحرية: قصة عمر كامل في م...
16 أكتوبر 2025
"حفلات التعذيب" ليس مجرد تعبيراً مجازياً ، بل واقعًا يختصر حكاية المعذبين بين جنبات أقبية...
لقد أعيدت إلينا جثامين الأسرى من غزة وهم مقيّدون، معصوبو الأعين، وعليهم آثار تعذيب وحروق ب...
منذ الساعات الأولى لحرب السابع من أكتوبر، أطلقت إدارة السجون الإسرائيلية ما وصفه الحقوقيون...