تفاصيــل الخبـر

غزة خلف القضبان: الإبادة الصامتة في السجون الإسرائيلية

بعد عامين من اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لا تزال شظايا الإبادة تتناثر في تفاصيل الحياة الفلسطينية، من الركام الذي غطى الأحياء المدمرة إلى السجون التي ضاقت بأجساد الأسرى وأنينهم.

فالحرب لم تتوقف عند حدود القطاع، لقد امتدت إلى عمق السجون الإسرائيلية، حيث يعيش آلاف الأسرى الفلسطينيين حربا من نوع آخر - حربا بلا بارود، لكنها لا تقل فتكا عن القصف المستمر.

في تلك الزنازين المعزولة، تتجسد سياسة الاحتلال في أقسى صورها: تجويع متعمّد، تعذيب ممنهج، وحرمان من الدواء والرعاية، حتى غدت السجون امتدادا طبيعيا لجبهات العدوان.

الأسير الفلسطيني لم يعد مجرد رقم خلف القضبان، أصبح شهيدا مؤجلا ينتظر دوره في قائمة القتل البطيء، كما تصفها المؤسسات الحقوقية.

حملة انتقامية وإبادة صامتة

فمنذ الساعات الأولى للحرب، شنت مصلحة السجون الإسرائيلية حملة انتقامية غير مسبوقة ضد الأسرى، خصوصا أبناء غزة، الذين نقل المئات منهم إلى مراكز اعتقال سرية، أبرزها سجن سديه تيمان الذي تحول إلى معسكر أشبه بمعتقلات الحرب، ُمارس فيه أبشع أشكال الإذلال والضرب والتجويع.

ومع مرور عامين على تلك الحرب، تواصل إدارة السجون حرمان الأسرى من أبسط الحقوق التي تضمنها اتفاقية جنيف الرابعة، فيما تتصاعد أعداد الشهداء داخل المعتقلات نتيجة التعذيب والإهمال الطبي.

فقد وثقت المؤسسات الحقوقية استشهاد 77 أسيرا فلسطينيا منذ أكتوبر 2023، معظمهم من أبناء قطاع غزة، فيما وصفته مؤسسة العهد الدولية بأنه "إبادة صامتة داخل السجون"، حيث يستخدم الجوع والمرض كأدوات قتل لا تقل بشاعة عن القنابل.

إنها حرب ل تخاض في الميدان وخلف الجدران؛ حرب تهدف إلى كسر إرادة الأسرى وتحطيم صمودهم، لكنها كما في غزة لم تفلح في إخماد روح المقاومة أو محو الوعي.

السجون كامتداد لجبهات الحرب

منذ الساعات الأولى لحرب السابع من أكتوبر، أطلقت إدارة السجون الإسرائيلية ما وصفه الحقوقيون بـ "الخطة الانتقامية الشاملة"، لتحويل حياة الأسرى إلى جحيم يومي. لم تكن السجون بعيدة عن مناخ الإبادة الذي عم قطاع غزة؛ وإنما تحولت إلى جبهة موازية، خاض فيها الاحتلال حربا صامتة ضد أجساد الأسرى وأرواحهم.

فقد أعلن عن حالة "الطوارئ الأمنية القصوى" داخل جميع السجون، وبدأت معها سلسلة إجراءات عقابية جماعية غير مسبوقة:

إغلاق الكانتينا (متجر السجن)، تقليص وجبات الطعام إلى الحد الأدنى، منع الخبز والملح لفترات طويلة، وحرمان الأسرى من الاستحمام لأيام متتالية. كما صودرت الملابس والأغطية الشخصية، وأُطفئت الكهرباء والمياه الساخنة في كثير من الأقسام، في مشهد وصفه نادي الأسير الفلسطيني بأنه "محاولة ممنهجة لإخضاع الأسرى وإلغاء إنسانيتهم".

أما أبناء قطاع غزة فكانوا في صلب هذه الحرب. فقد نقل المئات منهم، بعد اعتقالهم خلال الاجتياحات البرية، إلى معسكرات احتجاز سرية مثل سجن سديه تيمان ومعتقل عتصيون وعوفر، وتم استحداث عدة سجون لاستيعاب الأعداد الكبيرة من معتقلي غزة الذين فُقد التواصل معهم تماما، من هذه السجون والمعسكرات : منشة ، نفتالي ، عناتوت ، راكيفت ، معسكر عوفر.

ووصفت مؤسسة العهد الدولية أن هؤلاء الأسرى "يعاملون كأسرى حرب في معسكرات إذلال"، مؤكدة أن العديد منهم "يحتجزون مكبّلي الأيدي والأقدام، عراة أحيانا، دون طعام كاف أو علاج".

 وأكدت مؤسسة العهد الدولية من خلال شهادات أسرى محررين أن إدارة السجون استخدمت التعذيب الممنهج كسياسة انتقامية، شملت الضرب المبرح، الصعق الكهربائي، الرصاص المطاطي ، الحرق ، الحرمان من النوم، والعزل الانفرادي المطول وغيره من أدوات التعذيب المميتة. كما منعت زيارات المحامين والصليب الأحمر لأشهر طويلة في انتهاك صارخ لكل القوانين الدولية.

وفي سجن "نفحة" وحده، وثق الأسرى أكثر من 180 حالة اعتداء جماعي خلال عام 2024، تخللها تكسير لمقتنيات الأسرى وسحب الفُرش من الغرف.

وتزامن ذلك مع تصريحات لوزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، الذي أعلن صراحة عن "تقليص ظروف حياة الأسرى إلى الحد الأدنى"، وصرّح في نوفمبر 2023 قائلاً: "من غير المعقول أن يعيش الإرهابيون في السجون أفضل من جنودنا في الجبهات."

كانت تلك الجملة بمثابة إشارة البدء لحملة تعذيبٍ منظمة امتدت على مدار عامين، أفضت إلى استشهاد عشرات الأسرى، معظمهم من أبناء غزة الذين اعتُقلوا خلال العمليات العسكرية أو أثناء النزوح.

وفي هذا السياق، أكد تقرير مشترك بين نادي الأسير الفلسطيني ومؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان أن عامي 2023 و2024 شهدا "أقسى الظروف التي مر بها الأسرى منذ عقود"، مشيرًا إلى أن السجون تحولت إلى "مختبرات لإدارة الجوع والعقاب النفسي والجسدي"، وأن إدارة السجون "تتعامل مع الأسرى كأهداف عسكرية لا كبشر".

إن السجون والمعسكرات هي امتدادا لحرب سياسية وأمنية تمارس بوسائل مختلفة: السلاح في غزة، والحرمان في السجن. وكأن الاحتلال أراد أن يطوق الفلسطيني أينما كان ، إن نجا من القصف، فلن ينجو من الأسر ، وإن خرج من تحت الركام وجد نفسه تحت سياط الجوع والعزلة.

إحصائيات الأسرى والمعتقلين (سبتمبر 2025)

وفقًا للمعلومات المتاحة حتى بداية أيلول/سبتمبر 2025، ارتفع إجمالي عدد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي إلى أكثر من 11,100 أسير ومعتقل. يُعد هذا الرقم الأعلى منذ اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، ولا يشمل المعتقلين المحتجزين في المعسكرات التابعة لجيش الاحتلال تتوزع هذه الأعداد على النحو التالي:

•الأسيرات: يبلغ عددهن (51) أسيرة، بينهن أسيرتان من قطاع غزة.

•الأطفال: بلغ عددهم أكثر من (400) طفل.

•المعتقلون الإداريون: بلغ عددهم (3,577) معتقلًا، وهي النسبة الأعلى مقارنة بأعداد الأسرى الموقوفين والمحكومين.

•المعتقلون المصنفون "كمقاتلين غير شرعيين": بلغ عددهم (2,662) معتقلًا.

 من المهم الإشارة إلى أن هذا الرقم لا يشمل جميع معتقلي غزة المحتجزين في المعسكرات التابعة لجيش الاحتلال والمصنفين بهذا التصنيف، ويشمل أيضًا معتقلين عربًا من لبنان وسوريا.

تظهر هذه الإحصائيات حجم الاعتقالات الواسع النطاق الذي يمارسه الاحتلال، وتفاقم سياسة العقاب الجماعي، خاصة مع تزايد أعداد المعتقلين الإداريين والمصنفين "كمقاتلين غير شرعيين"، مما يعكس استهدافا ممنهجا للمجتمع الفلسطيني.

الإهمال الطبي: القتل البطيء كسياسة منهجية

يعد الإهمال الطبي أحد أكثر أوجه المعاناة قسوة داخل السجون الإسرائيلية، ويُعتبر سياسة ممنهجة تؤدي إلى "القتل البطيء" للأسرى. فمن بين الأسرى المرضى، هناك أكثر من ٢٥ أسيرًا مصابون بأورام سرطانية، وآخرون بأمراض في القلب والرئتين والمعدة، لكنّ العلاج غالبا ما يُؤجّل أو يُمنع بالكامل.

وتكشف شهادات عديدة أن إدارة السجون تتعمد تأخير الفحوص الجراحية والأدوية حتى تتدهور الحالة الصحية للأسير، وهي سياسة وصفتها مؤسسة العهد الدولية بـ "إعدام بطيء".

 وفق هيئة شؤون الأسرى والمحررين، فإن ١١٢ أسيرًا استشهدوا منذ عام 1967 نتيجة الإهمال الطبي، من بينهم عدد متزايد في السنوات الأخيرة. وتشير تقديرات عام 2025 إلى أن هناك أكثر من ٢٥ أسيرًا مصابون بالسرطان يواجهون خطر الموت دون علاج.

من الأمثلة البارزة مؤخرا على هذه السياسة والتي رصدتها مؤسسة العهد الدولية حالة الأسير القائد فواز بعارة من مدينة نابلس، الذي يعاني من ورم سرطاني وفقدان تدريجي للبصر وضعف في عضلة القلب، لكنه لا يتلقى سوى مسكنات بسيطة. وقد أكدت ابنته وفق شهادتها لمؤسسة العهد أن الاحتلال يماطل في إجراء عملية قلب مفتوح له، معبرة عن خشيتها من أن يفقده كما فقدوا كثيرين.

التعذيب والوفاة الغامضة: ما وراء الجدران

شهد العامان الأخيران ارتفاعًا مقلقا في عدد حالات استشهاد الأسرى الفلسطينيين داخل السجون ومراكز الاحتجاز الإسرائيلية، وغالبيتهم من قطاع غزة. وتشير المؤسسات الحقوقية الفلسطينية إلى أن ٧٧ أسيرًا فلسطينيًا استُشهدوا داخل سجون ومراكز احتجاز الاحتلال منذ اندلاع حرب الإبادة في أكتوبر 2023، غالبيتهم من قطاع غزة، نتيجة التعذيب والإهمال الطبي والتجويع المتعمد.

وقد أكدت مؤسسة العهد الدولية أن شهادات موثوقة من داخل السجون وخارجها تشير إلى أن العديد من الأسرى الغزيين استُشهدوا تحت التعذيب أو بفعل الإهمال الطبي المتعمد. كما بينت مؤسسة العهد الدولية وجود "حالات وفاة غامضة لعدد من المعتقلين من غزة الذين احتجزوا في سجن سديه تيمان العسكري ومراكز تحقيق سرية موضحة من خلال الشهادات أساليب التعذيب المختلفة، بما في ذلك الضرب المبرح، والعنف الجنسي، والتعذيب النفسي، وظروف الاحتجاز اللاإنسانية".

القانون الدولي... بين النصوص المعطلة والواقع الغائب

تنص اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 على وجوب توفير الرعاية الصحية للمعتقلين، وضمان نظافة أماكن احتجازهم، والسماح بزيارات دورية من الصليب الأحمر. إلا أن واقع السجون الإسرائيلية، كما تصفه التقارير الحقوقية، يناقض تلك الالتزامات بالكامل.

وقد دعت مؤسسة العهد الدولية اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بـ"تشكيل لجنة تحقيق دولية عاجلة" لمتابعة ما وصفتها بـ"جرائم الحرب المرتكبة داخل السجون الإسرائيلية"، مشددة على أن "صمت المجتمع الدولي على هذه الجرائم يشجع الاحتلال على التمادي في سياساته اللاإنسانية ضد الأسرى".

منظمة العفو الدولية أكدت أن إسرائيل ارتكبت جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وأن آلاف الفلسطينيين تعرضوا للاحتجاز التعسفي والمعاملة السيئة التي وصلت إلى حد التعذيب.

كما أن تقرير مركز العودة الفلسطيني يدعو إلى إجراء تحقيقات دولية مستقلة وعاجلة تحت إشراف الأمم المتحدة، وتعزيز الجهود لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين عن جرائمهم ضد الإنسانية.

الأسرى مرآة الحرب

في الذكرى الثانية لحرب الإبادة على غزة، تكشف معاناة الأسرى داخل السجون عن الوجه الخفي لتلك الحرب: حرب تخاض ضد الجسد والروح في آنٍ واحد. فبينما يهدم البيت في غزة بالصواريخ، يهدم الجسد في السجن بالإهمال. وبينما تدفن العائلات تحت الركام، يُدفن الأسرى تحت طبقات من العزلة والحرمان.

رغم كل ما يعيشه الأسرى من قهرٍ وعتمةٍ وظلمٍ، إلا أن روحهم تبقى عصيّة على الانكسار.

في رسائلهم القليلة التي تتسرب عبر المحامين، يكتبون عن وطن لم يغادرهم، وعن حلم واحد يتكرر: الحرية.

إن الأسرى الفلسطينيين، وخاصة من قطاع غزة، يواجهون سياسة انتقامية ممنهجة تهدف إلى كسر إرادتهم وتحطيم معنوياتهم. صمت المجتمع الدولي وعدم تحركه الفعال يشجع الاحتلال على التمادي في هذه الجرائم التي ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. يتطلب هذا الوضع تحركا دوليا عاجلا ومحاسبة المسؤولين لضمان حقوق الأسرى ووقف هذه الانتهاكات الصارخة.

 

أخبار مشابهة